٢٠١٠/٠٥/٢٤

عمال أمونسيتو .. نعالكم فوق رؤوسنا

تبدأ تلك الحكاية الخيالية عن مجموعة من العمال المصريين، الذين طالما أنشدت لهم الثورة، وكتب صلاح جاهين وغيره عن العامل والفلاح المصري. وحركة البناء والتشييد -لا أتكلم عن بناء الألف مصنع المزعوم- لينتقل الزمن سريعاً لعصر الانفتاح ثم لعصر الرجل الذي لا يرحل أبدا، لينهار كل شيء أكثر مما هو منهار.

مجموعة من العمّال في مصنع كان قديماً يعمل، ثم كالعادة -حتى تكتمل الحبكة- يخسر المصنع، ثم يتم خصخصته لأحد رجال الأعمال الذين هبطوا فجأة علينا. ولأنه صار من يمتلك المال يمتلك كل شيء، يمتلك الأرض والتاريخ والنساء والمواطن المصري النفيس بشرفه وعزته وكرامته..

يفزع العمال كعادة الحكايات القديمة -فأنا كاتب أسرق الحكايات من كثرة تكرارها- ويتخوفون من مستقبلهم المجهول، ينظرون لأبنائهم وكرامتهم التي هي بالفعل منهارة ولا تحتمل انهياراً أكثر، وملابسهم البسيطة التي لا تحتمل بساطة أكثر، وعن ما في جيبوهم الذي لا يشفع لهم استمراراً لأشهر بسيطة بل لربما أيام!.


يشكرون الله على الصحة والرغيف، لأن لو أصابهم أو أبنائهم أي شيء (ربما ولو حتى وعكة بسيطة) لكلفهم ذلك ما لايقل عن ربع المرتب، وجشع الأطباء في عياداتهم الخاصة الذين لا يرحمون في مقابل مستشفيات بائسة يتعمدون إغراقها.


يطمئن العمال على أن المستثمر الجديد سوف يحافظ عليهم - البسطاء صدقوا، لم تحافظ عليهم أمهم فهل يحافظ الغريب؟!- ولا يجدون مفراً ما وسط التضييق وعليهم القبول.

يمارس المستثمر ما يشاء معهم دون نصير، لكنه الصبر الذي لا بديل عنه. الخوف من الفضيحة التي ستلاحقهم من النزول من آخر خط للفقر يقفون فيه، إلى الضياع التام الذين يعيشه بالفعل ما لا يقل عن ربع الشعب المصري!


لا يعنينا كثيراً لماذا هرب المستثمر، هل لأنه ابن حرام؟! أم لأن أولاد الحرام هم علية القوم في البلد؟! أم مزيج؟!. ولا يعنيني ما ضمانات البنك الذي ساعد المستثمر، حكاية أرجوكم لا تهتموا بها لسببين، أولهما أنه لو تتبعت الأثر لما زادك إلا جنوناً وانفطاراً للقلب وشيخوخة مبكرة-هذا لو أنه ما زال لديك دم، أو أنك لست شاباً تافهاً)

وثانيهما أن ما حدث للعمال بعد ذلك يستحق الاهتمام أكثر....

قام البنك بالحجز على المصنع بعد هرب المستثمر، سرح العمال. العمال صار ضياعهم لا مفر منه..إلى الشارع بمعنى أصح.

صدقوني فكروا كثيراً ومراراً وتكراراً ، لا مخرج أمامهم تماماً.. ضاعت كل مستحقاتهم ضاع مستقبلهم. فكروا سريعاً،تجمعوا أمام مجلس الشعب آملين أن يجدوا إجابة ما لما حدث، لم يطلبوا مثل عمال أي دولة محترمة تعوضيات كذا وكذا، انتظروا أحدهم ليمسح عنهم أوجاعهم ولو حتى بخدعة أو بكلام طلسمي مثل: لا مساس بمحدودي الدخل، لا مساس بالطبقة العاملة، مرحى مرحى لعمال مصر الشرفاء!


انتظروا أن يطمئنوا -ولو حتى بالكلام- عن ماذا بعد، عن القادم المظلم الذي طالما كان مظلما بالفعل منذ ولدوا ولكن الفضيحة والخراب ستصبحان (بجلاجل) أكثر وأكثر.

آه يا لكم من برءاء طيبين في قمة نقائكم وأزمتكم!! .. تكتمل الحكاية الخيالية في أنهم استمروا لما يزيد عن التسعين يوماً دون أن يجيبهم أحد، ناموا في العراء واعتصموا (الاعتصام حرام يا جماعة!) أمام مجلس شعبهم، مجلسهم لأنهم الشعب، ولكن لا أحد يجيب، وكأنهم تحولوا لأشباح غير مرئية أو لخيالات مآتة على أكثر الآراء تفاؤلاً.


لربما طول البقاء وزيادة التكاليف وحياة التشرد ومشارف التفكك أو الخراب الأسري أو سجن لأقساط ما(حاولوا فقط بها ستر بناتهم أو تعليم أبنائهم!) لم تحركهم لمزيد من جلب الانتباه. بل تحركوا ربما لتخوفهم أن يكونوا تحولوا لأشباح أو خيالات مآتةبالفعل. الطيبون آرادوا أن يختبروا أنهم ما زلوا على قيد الحياة!

لم يجدوا فراراً إلا أن يجذبوا النظر، اشتروا أكفاناً أو لربما شحذوها. لفوا أنفسهم بها، ناموا في عرض الطريق وضعوا البعض منهم في توابيت (ربما سرقوها من أحد الجوامع، بعد أن رفض إمام المسجد التقي! خوفاً من أمن الدولة الذي يحكم سيطرته على الجميع)


عبر المارة وشاهدوهم، صورتهم بعض الصحف، أحكم الأمن محاصرتهم حتى لا يخرجوا عن نطاق السيطرة. مر كل شيء ولم يستجب أحد.

بدأوا يفقدون الثقة في أنهم كائنات مرئية (ربما تمنى بعضهم أن يكونوا حيوانات، فلإما تدهس سيارة أحدهم أو تتولاهم جمعية رفق)

خططوا في التصعيد أكثر والدموع تملأ قلوبهم، إنها فعلا النهاية.. لا شيء بعد الذي هم فيه.. فليخلعوا الملابس ويقفون للاحتجاج.. الطيبون يظنون أنهم بذلك سيجدون حلاً.. كم أنتم أطهر من أطهرنا! (مؤكد أن أحد الشيوخ أفتى بأن هذا لا يجوز لأن العورة من السرة إلى الركبة)


اللعنة على الجميع.. هذا ما قالوه، لا أحد يتحرك لهم، إن الجيف النتنة تجد من يدفنها، إنهم حتى لا يعرفون خلاصاً.
حاولوا الخروج للشارع كي يصلوا للبنك الذي حجز على مصنعهم ولم يدركهم مجرد تعويض.. مجرد تعويض ربما يكفيهم عامأ أو عامين.. هذا أقصى ما تمناه البسطاء الأطهار، لم يطلبوا أراضٍ ولا عمولات ولا صفقات بطرق غير شرعية كما يفعل الجميع أمام مرأى ومسمع من الجميع!.

كانوا في قمة المرح وهما يتحركون لمعركة النهاية، وهم يدركون هذا لأن الأمن لن يدعهم يسيرون في الطرقات ليراهم العامة.

مسك بعضهم صفارات وأدوات خبط كفرقة حصبلة، خلعوا قمصانهم وتوحدوا بفانلاتهم الداخلية كفريق قومي يريد نصراً في مبارة ليست كمبارة نهائي أمم إفريقيا. عزّل إلا من أياديهم الطاهرة.
حاصرهم الأمن... رشهم بالمياه .. ضربهم بالعصي.. بعضهم حوصر لم يجد فراراً، بعضهم اعتقل، بعضهم عرف أن يخرج بقوة لا تتأتى إلا لقوة شخص خاسر.. لا يبكي على أي شيء.


مشهد على خشبة العرض:
- أحد عساكر الأمن المركزي يبكي وهو يحبس دموعه للداخل وهو يضرب كهلاً على مشارف المعاش.

- أحد العمال يتذكر جهاده في حرب 1973 ضد الصهيانة، وكيف فقد زميله بجواره، والذي تأكد أنه كان أسعد حظاً لا لأنه مات شهيداً فقط ، بل لأنه لم يعش حتى الآن ويعاني في مصر التي ساهم في تحريرها، بالإضافة أن الصهيانة يدخلون شرم الشيخ بسهولة لا يستطيعها من حررها بدمه وسنوات عمره!

- أحد الضباط يأمر العساكر أن يضربوا أولاد المومس بلا شفقة إذا حاولوا عبور الكردون.

- أحد العمال حقق أول انتصار في تاريخه وفرح بعد أن عبر الكردون الأمني، رغم أن ما زال أمامه الكثير للوصول للبنك، ولأول مرة يظفر بشيء في حياته!

- أحد العمال لا إلى هؤلاء الذين عبروا ولا إلى هؤلاء الذين فشلوا، إنه يفكر في كيف يوفر علاج ابنه المصاب بالسرطان.

- أحد العمال وهو يعبر ، أصابه مسمار صديء، فانهار وبكى بحرقة لأن كل العوامل ضده.

- أحد العمال بعد أن عبر وشعر بالظفر.. لم يدر ما الخطوة القادمة................


إن هؤلاء العمال هم الأطهر، ماذا نفعل للتكفير عن ذنوبنا تجاههم. هل نقبل أقدامهم الطاهرة ليعزينا هذا الشعور عن ما اقترفناه معهم من صمت. كيف نعيش وكأن شيئا لم يكن بعد كل ما مروا به، هل لابد أن نتخيل أن هذا قد يحدث لآبائنا حتى نتصور الفاجعة التي تصيبنا؟مع أنه وارد جداً. هل لابد أن نتخيل هذا حتى نتحرك معهم؟

كيف نتصالح مع أنفسنا، ونصلي فروضنا وكأننا أدينا ما علينا، كيف لا يتعاهد كل شخص في قرارة نفسه –على الأقل- أن يكون مواطناً شريفاً مهما حدث، يراعي الله ووطنه في كل شيء.. كيف تستمر الحياة وكأن شيئا لم يكن وكأن لم يهتك عرض بلدنا مصر بحادث مثل هذا، ما بالنا أنها تهتك يومياً في اليوم ألف مرة!

كيف يخرج بعدها من يسمون أنفسهم شيوخاً في القنوات التي تسمى نفسها دينية، ليجيبوا على من يسألون : حلمت أن دجاجة تعبر الطريق ما تفسير ذلك يا شيخ؟ أو كيف نواجه الشيعة الخطر الداهم علينا الذين هم أخطر من الصهاينة؟ أو هل وجه المرأة عورة(وتحدث معارك بعدها لا تنتهي)...إلخ من التفاهات.

نفكر وقتها ما هو الدين أصلاً؟ وما علاقة ما حدث لعمال أمونسيتو من الدين؟ وما موقف العلماء أو أنصاف وأرباع العلماء من ضياع الحقوق؟

ونفكر فيم يفكر الشباب؟ والصراع بين تامر حسني وعمرو دياب؟ وعن ثقافة عقول الشباب؟، وعن الموضة التي لا هوية لنا فيها؟، وعن التحرش بالفتيات؟ وعن ضياع الشباب في تيار الإحباط والإدمان؟

نفكر في انهيارنا في كل شيء في كل القطاعات(سياسة،صحة،تعليم،اقتصاد،تجارة...إلخ)وكيف أننا في ذيل الدول؟ وعن موقفنا من البحث العلمي وقضايا مثل التعليم التي تشغل كل الدول؟ وعن الأزهر المنارة الذي لم يعد كما كان؟وعن الغلاء؟ والثراء السريع للقلة؟والعنوسة؟؟ ضياع أحلام جيل كامل؟
نفكر في.....................................إلخ

عمال أمونسيتو.. أعتذر لكم اعتذاراً لا يجدي ولا ينفع ولا يشفع.. نحن لا نستحق ما فعلتم.. نحن لا نستحق
!
عزاؤنا الوحيد أن كل هذا كما قلت بداية ...مجرد حكاية خيالية!

٢٠١٠/٠٥/١٥

حتى أعود

وبرغم الجرح النازف .. والقلب المخدّل .. واللا راحة في النوم والفرحة والعمر -الذي لا تبدو نهايته- وهزيمتي المنتصرة وهزائمكم المخزية .. وبرغم كل شيء يستمر سواءً ارتضيت أو ارتضيتم أو لا ..سوف أعود .

سوف أعود لتعرفوا أن كل ما يئستم عليه لم يكن كافياً ليوقفني .. لتعرفوا أن عمركم الباقي ستحيونه وأنا معكم / وأنتم معي .

لتعرفوا أنني لن أفعل مثل أجدادكم الثوريين
(1) لم يستطيعوا التحمل وسط عالمكم القميء فآثروا السكون ثم الموت بعدما تأكدوا أنهم لن يستطيعوا أن يروا أول طريق سيعيدهم ويعيدنا إلى جنتنا المفقودة منذ أمد.

سأعود لكم بورودي الحمراء لأضعها فوق جباهكم .. و ورود أخرى لأقطفها ورقة ورقة لأنشرها على طريقنا الممتد حتى آخر ما نرى في هذا العالم .
لأَطبع قبلة -تنتظرونها- فوق كلكم فتحيون سعداء آمنين مطمئنين .

قطعت لكم -وأنا قادم- قوالب من الشيكولاتة لتأكلوها أمامي -كما أكلتم سابقا- . حفظتها لكم من حرارة الشمس وخبّأتها عن عيون أطفالهم –وعذراً لهم- لأنني حتماً سأعود!.

سأعود ومعي ألحان لن تسمعوها أبداً من غيري .. ألحان سيحاول العازفون محاكاتها ولكنهم لن يستطيعوا .. ألحاني التي اختلفت وتفردت عن ألحانهم . ومعي غنوة -تُغني عن كل أغنياتهم- لنرددها سوياً بعدما تتشابك الأيدي وتلتمع العيون.. ونعيدها ونرددها ونحيا بها حتى لا نمل !.

سأعود لتروا لؤلؤتي البيضاء .. ووجهي الذي تستريحون عليه .. وقلبي المتسع لكم .. ويدي الحانية .. وعشقي لكم .. وأطفالي منكم .. وحكاياتي التي طالما استمعتم لها .. وأعيني التي ترون بها .

سأعود لأنكم أعطتيموني وعوداً لا طااائل لها !!! .. ولأنه مازال الكثير لأعطيه لكم ! . سأعود لأنه لا حياة بدونكم فبكم أستمد الفرحة الوحيدة الباقية وسط هذا العالم المحبِط.. وسط هذا العالم الذي يقتل فرسانه.

سأعود لأنكم لن تستطيعوا أن تتركوني وحيداً هكذا !! .. لأن الطفل الذي بي ستفطرون قلبه إذا فعلتم .. سأعود لأنكم لستم قساةً برغم ما تظهرون لي.

سأعود فاستقبلوني بأعواد الياسمين وبتلات حبكم وعطوركم الزكية وطهارتكم المعهودة وانطلاقاتكم الطفولية وأحلامكم التي شاركت بها ولم أضن يوما بكلي فيها.

سأعود .. لأنني أثّرت فيكم .. لأنني لم أترك ركنا إلا ووضعت فيه لمستي ووضعتم فيّ لمساتكم ..
سأعود فاستقبلوني استقبال الفاتحين .. وافرحوا بفتوحاتي العظيمة رغم هذه الدماء السائلة .. فطبّبوني... طبّبوني لأنني تعبت .. طبّبوني لأنه لن أجد من يفعل هذا . لأنه حتى لو وجدت لن أستريح على يديه لأن أياديكم أزكى وأطهر وأشفى ! .

سأعود .. فقبّلوني .. ثم دثّروني بأرديتكم فالبرد يأكل الجسد.. وأوراق الحياة لا تكفي لتبعث الدفء .. والشتاء طويل .. والليل حالك وأنا لا أرى ..
أنا لا أرى غير وجوهكم .. هذه المأساة التي سأعود-لكم- فراراً منها !.

سأعود لأن الكلمات لا تجدي .. لأن الكلمات لا تصوّر ولا تتكلم ولا تَشعر ولا تبكي .. لأن الكلمات لا تنقل إلا اليسير من الألم .. لأن الكلمات لا تمتلئ ألواناً وفرحة وحياة .. لأن الكلمات جامدة .. لأن الكلمات غصن صفصاف هزيل -كما قال نجيب -
(2)

سأعود لأن الكل يكتب .. ولأن الكل يكتب ما لا يفعل .. لأن الكل يكتب ما لا يشعر .. لأنهم يدّعون.. لأنهم يتبعهم الغاوون .. سأعود لأنني غيرهم .. لأنني في زمرة المؤمنين.. لأنني أكتب ما أفعل .. لأنني أكتب ما أشعر.. لأنني عاجز عن كتابة ما أشعر .. لأن الكلمات لا نرى فيها الألم .. لأنها لا تُساقط دماً !

سأعود..
فانتظروني .. لا تعاقبوني على تعثري .. لا يصيبكم الملل .. لا يطرق أبوابكم اليأس في عودتي .. لا يمسكم أحدهم . حافظوا –لي- عليكم .. لأنني عائد حتماً ..
فاملؤوا أحلامكم بي .. وقبّلوني في منامكم .. واعبثوا بذكرياتي - التي حولكم أين ذهبتم - حتى أعود !.





======


(1) أجدادكم الثوريين : لأنه لا يوجد الآن آباء ثوّار .. لأن آباءنا لم يعلمونا الثورة.. بل –للمأساة- يقومون بنزعها منّا ! .. لذلك نبحث في قصص الأجداد والسابقين والحكايات القديمة والأساطير الشجاعة .. والفرسان الذين كانوا !.


(2) الشاعر نجيب سرور ذكر تعبير "غصن صفصاف هزيل" في قصيدة لزوم ما يلزم

أنت لا تملك غير الكلمات ،
حيلة العاجز عن كل الحيل
( كلمات .. كلمات .. كلمات )
غُصْنُ صفصاف هزيل ..
أي عُكّاز وفى الدرب ملايين الحفر !

٢٠١٠/٠٤/١١

وفينك؟

أصبحت كآلة تعمل .. لا تكل ولا تمل، أدخل في أي شيء أسعى لنهايته وأيضاً أتوقع أسوأ ما فيه. لا أنزعج كثيراً لحدوث أي شيء،أشد عليَّ الجرح وأنتصب بابتسامة صبر يغبطني/يحسدني عليها كل البشر!

أعرف أنه من الصعب أن تكون مولد أحلام لكل من حولك وأنت مُتعَب. ينظرون إليك كفارس نبيل فقد كل أدوات قتاله إلا الكلمة!، ويؤمنون بكلماتك التي لا تقويها أرض تحملهم.. ينظرون لبريق عينيك وانفعالاتك وكأن كل شيء رأي أعينهم (أنا كل شي بقوله عم حسه وعم يطلع مني!)

ولمّا زرت الأسكندرية أواخر الشتاء، لم يعن لي البحر في زرقته أو ظلامه ولا هذا الطقس ولا حمص الشام ليلاً أي شيء! مجرد ذاكرة مشوشة مضطربة لا تفهم ولا تفكر في أي شيء.
( أعرف أن الذاكرة المشوشة أشد إيلاماً من الذاكرة الواضحة، تحاول أن تمسك بتلابيب أي شيء .. فلا أنت وصلت ولا أنت انتهيت!)
حتى التفكير لم يعد له أي معنى .. وأي لا معنى لا راحة به، وأي راحة مفقودة ...

أسوأ/أجمل ما في الحياة أن تراها على أنها حيز زمني، يجب أن تقضيه.. لذلك أتعامل مع طالب في أواخر العقد الثاني مصاب بمرض أنهى كل أحلامه بل وربما حياته قريباً بشيء من القوة وأنا أقول له: ماذا في هذا .. لا تنكسر هكذا وأنت تتكلم أمام الناس .. ببساطة عش الحياة كأنها حيز زمني .. أحدهم كان حيزه الزمني ثمانين عاماً وآخر عشر سنوات! هذا كل ما في الأمر.

تجلس أمام فتاة لبداية جديدة، -وما أصعب البدايات بعدها - وكلما تسألك عن كل شيء تقول: .. والله عندي نظرية في هذا .. فلسفتي في هذه النقطة تحديداً كذا..إلخ. تؤمن كثيرا في كلامي وفيَّ، وتحترم وتقدر الماثل أمامها .. ولكنها لا تكمل بعد هذ الكم من النظريات! .. وأيضاً لا يُحدث هذا فارقاً يذكر معي!



تشعر تماماً أن شيئاً لم يعد،
ما فات يصعب أن يُرد
بل مستحيل أن يكون...
" في البدء كان الحلم يُبنى من عدم
ثم التلوّن بالأمل،
ثم الصراع لكي يكون..
والحمد للرب الذي كان السبب"
لكنها الآن اختفت
لكنها الآن اختفت!