والدي العزيز
بسم الله الرحمن الرحيم
والدي العزيز..
كل عام وأنتَ بخير وبصحة جيدة وفي أفضل حال.
لم أفكّر كثيرا في نوع الهدية التي أقدمها لك، لأنه ليس هناك ماهو أفضل من الكلمات، وخصوصا لو كانت – تلك الكلمات - في الستين من العمر.
ولأن الكلمات أبقى من العينيات، بل يقال أن الكلمات يتناقلها الأموات - بعد رحيلهم - كما يتناقلها الأحياء ولا فرق بينهما في هذا.
وهل يورّث الموتى أعز من الكلمات أيضا؟؟!.
وأتقدم لك بخالص التقدير والاعتزاز والحب على أنك تعبت من أجلنا، وأنفقت سنواتك بعيداً عن الوطن من أجل أن توفر لنا حياة كريمة، وإن كانت الحياة ليس من المشترط أن تقاس هكذا، إلا أنه لا ينكر أحدهم أهمية هذا الكيان المادي الذي وفرته لأولادك.
وأعتقد أن من أهم الأشياء التي تعلمتها منك أو أُورثتها جينياً – والله أعلم - وأعتز كثيرا بها ألا وهي قيمة العمل والبذل وعدم ادخار أي جهد يمكن أن يقدم لشيء ما، حتى ولو اختلفت اهتماماتي الحالية التي أقدم فيها جهدي وعملي الآن- وهذا طبيعي وسنة كونية- ، إلا أن هذا أظنه سيستمر معي في كامل حياتي، سواء العملية منها أو التطوعية أو الشخصية.
وأتكلم هنا عن نفسي في أنني أتمنى أن تفخر بي دوماً، على الأقل أنني لست كغيري من الشباب الذين فقدوا – وسط كم الإحباطات- الانتماء لوطنهم وعشقه، بل فقدوا أيضاً الانتماء لنفسهم، وأصبحوا مطية لعصر العولمة في تفاهة الفكر والتفكير والسطحية، وأصبحوا يساقون يميناً ويساراً في ومن مختلف الأشياء دون وعي وتفكر وتفكير. كما هو أيضاً حال الشباب الآخر في الجهة المقابلة من الانغلاق الفكري والانسياق وراء من ألغوا عقولهم باسم أشياء كثيرة ومنها الدين، فأصبحوا أوعية وإمعات في نفس الوقت.
بل أحاول جاهداً أن أتعلم وأستزيد وأقرأ وأفكر وأدرس وأتحمل هموماً صار تحملها لمن هم في مثل سني نوعاً من العبث أو الغرابة!
كما أرجو أن تسامحني لأي شيء بدر مني أو أي تقصير تجاهك أو تجاه نفسي أو تجاه أي شخص، فبخصوص حياتي ومستقبلي فأنا راضٍ تماما عما سلكته، وإن كان الرضا لن يثني عن ما أنويه مستقبلاً فهو رضا عام ينبغي أن يغلف الأشياء لا أن يجعلنا نثبت ونستكين وننتهي، وعموماً.. فالحياة خير معلّم وتأكد من أنني تعلمت وأتعلم وسأتعلم.
أما ما أصابني فيه التقصير تجاهك أو ما جعلك تنقم علي ولا يجعلك راضياً عني، فأرجو أن تغفره لي وتسامحني فيه، لأنه لا شيء سيعود مرة أخرى ولأن العمر أقصر في أن نضيعه على ماض، ولنأمل في المستقبل، وعفى الله عما سلف.
وقد فكرت أيضاً أن أكمل ما كتبته بقصيدة للشاعر العظيم الراحل محمود درويش، وقد اختلف معي بعض الأصدقاء عندما حدثتهم في أنني سأختار في مناسبة تمامك الستين قصيدة بعينها، نظراً لأنها – من وجهة نظرهم- قصيدة قاسية (في ظاهرها).
إلا أنني كنت لأتمنى أن يهدي لي ابني - في مثل هذه المناسبة - نفس القصيدة، بل ولكنت سأعدها أفضل ما قدم لي، لأنها قصيدة تدعو للتأمل والتفكير والرؤية المختلفة بعد انقضاء سنوات عديدة، بخلاف كونها واقعية، وأنا بي داء ألم بي وهو التفكير المجرد، لذا فأنا أكره التفكير في الأشياء وهي مغلّفة ومغطّاة، بل أحب أن يمتد نظري لما وراء الشيء لأستكشف كنهه وماهيته بنظرة ثاقبة، حتى أرى جمال أو قبح الأشياء دون زيادة أو نقصان.
الآن، في المنفي ... نعم في البيت،
في الستين من عمر سريع
يوقدون الشمع لك
فافرح بأقصي ما استطعت من الهدوء،
لأن موتاً طائشاً ضل الطريق إليك
من فرط الزحام ... وأجَّلك
قمرٌ فضوليٌّ على الأطلال،
يضحك كالغبيّ
فلا تصدق أنه يدنو لكي يستقبلك
هو في وظيفته القديمة، مثل آذارَ
الجديد ... أعاد للأشجار أسماء الحنين
وأهملك
فلتحتفل مع أصدقائك بانكسار الكأس.
في الستين لن تجد الغد الباقي
لتحمله علي كتف النشيد... ويحملك
قل للحياة، كما يليق بشاعر متمرس:
سيري ببطء كالإناث الواثقات بسحرهن
وكيدهن. لكل واحدة نداءٌ ما خفيٌ :
هَيتَ لك / ما أجملك!
سيري ببطء، يا حياة، لكي أراك
بكامل النقصان حولي كم نسيتك في
خضمِّك باحثاً عني وعنك. وكلما أدركت
سراً منك قلت بقسوة: ما أجهلَك!
قل للغياب: نقصتني
وأنا حضرتَ ... لأكملَك!
والدي العزيز .. كل عام وأنتَ بخير.. أحبك
ابنك: حامد